فصل: سنة إحدى وستين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير الحسين إلى الكوفة:

قيل: لما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له: إني أتيتك لحاجته أريد ذكرها نصيحةً لك، فإن كنت ترى أنك مستنصحي قلتها وأديت ما علي من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا مستنصحي كففت عما أريد. فقال له: قل فوالله ما أستغشك وما أظنك بشيء من الهوى. قال له: قد بلغني أنك تريد العراق، وإني مشفقٌ عليك، إنك تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه. فقال له الحسين: جزاك الله خيراً يا ابن عم، فقد علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح.
قال: وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ فقال له: قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك، خبرني، رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغزوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك. فقال الحسين: فإني أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعةً ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم، خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتبت إلي شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير الله. فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها. ثم خشي أن يتهمه فقال له: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك. فقال له الحسين: إن أبي حدثني أن لها كبشاً به تستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش. قال: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى. قال: ولا أريد هذا أيضاً. ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا ندري، جعلنا الله فداك! قال: إنه يقول: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال له الحسين: والله لئن أقتل خارجاً منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجاً منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجاً منها بشبر، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم! والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت. فقام ابن الزبير فخرج من عنده.
فقال الحسين: إن هذا ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له.
قال: فلما كان من العشي أو من الغد أتاه ابن عباس فقال: يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاءك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.
فقال له الحسين: يا ابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير. فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه. ثم قال له ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت لفعلت ذلك.
ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بابن الزبير فقال: قرت عينك يا ابن الزبير! ثم أنشد قائلاً:
يا لك من قبرةٍ بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.
قيل: وكان الحسين يقول: والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم المرأة. قال: والفرم خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت.
ثم خرج الحسين يوم التروية، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص، وهو أمير على الحجاز ليزيد بن معاوية مع أخيه يحيى، يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وتضاربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه وساروا فمروا بالتنعيم، فرأى بها عيراً قد أقبلت من اليمن بعث بها بحير بن ريسان من اليمن إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن، وعلى العير الورس والحلل، فأخذها الحسين وقال لأصحاب الإبل: من أحب منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء؛ فمن فارق منهم أعطاه حقه، ومن سار معه أعطاه كراءه وكساه.
ثم سار، فلما انتهى إلى الصفاح لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب. فقال له الحسين: بين لي خبر الناس خلفك. قال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال الحسين: صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته.
قال: وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد، وفيه: أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفىء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي، والسلام.
وقيل: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فقال له: اكتب للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه وتمنيه في البر والصلة واسأله الرجوع. وكان عمرو عامل يزيد على مكة، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر، فلحقاه وقرآ عليه الكتاب وجهدا أن يرجع، فلم يفعل، وكان مما اعتذر به إليهما أن قال: إني رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علي كان أو لي. فقالا: ما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت بها أحداً وما أنا محدث بها أحداً حتى ألقى ربي.
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن نمير التميمي صاحب شرطته فنزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع. فلما بلغ الحسين الحاجر كتب إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يعرفهم قدومه ويأمرهم بالجد في أمرهم، فلما انتهى قيسٌ إلى القادسية أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد، فقال له ابن زياد: اصعد القصر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي. فصعد قيسٌ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه؛ ثم لعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي. فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع، فلما رآه قام إليه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله! ما أقدمك؟ فاحتمله فأنزله، فأخبره الحسين، فقال له عبد الله: أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله في حرمة قريش، أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية! فأبى إلا أن يمضي.
وكان زهير بن القين البجلي قد حج، وكان عثمانياً، فلما عاد جمعهما الطريق، وكان يساير الحسين من مكة إلا أنه لا ينزل معه، فاستدعاه يوماً الحسين فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، وسأحدثكم حديثاً، غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم، فأما أنا فأستودعكم الله! ثم طلق زوجته وقال لها: الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير. ولزم الحسين حتى قتل معه.
وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية فقال له بعض أصحابه: ننشدك إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك! فوثب بنو عقيل وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم! فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيلٍ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. ثم ارتحلوا فانتهوا إلى زبالة، وكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله، فأخذته خيل الحصين، فسيره من القادسية إلى ابن زياد، فقال له: اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي. فصعد فأعلم الناس بقدوم الحسين ولعن ابن زياد وأباه، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه.
قال بعضهم: لم يكن الذي ذبحه عبد الملك بن عمير ولكنه رجل يشبه عبد الملك.
فلما أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل أعلم الناس ذلك وقال: قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام. فتفرقوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا علام يقدمون.
ثم سار حتى نزل بطن العقبة، فلقيه رجلٌ من العرب فقال له: أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأياً، فأما على هذه الحال التي تذكر فلا أرى أن تفعل. فقال: إنه لا يخفى علي ما ذكرت ولكن الله، عز وجل، لا يغلب على أمره. ثم ارتحل منها.

.ذكر عدة حوادث:

وفي هذه السنة حج بالناس عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، وكان العامل على مكة والمدينة وفيها مات جرهد الأسلمي له صحبة. وفي أيام معاوية مات حارثة بن النعمان الأنصاري، وهو بدريٌّ. وفي أيامه أيضاً مات دحية ابن خليفة الكلبي الذي كان يشبهه جبرائيل إذا أنزل بالوحي. وفي أول خلافته مات رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري، وكان بدرياً، وشهد مع علي الجمل وصفين. وفي أيامه مات عمرو بن أمية الضمري بالمدينة. وفي أيامه مات عثمان بن حنيف الأنصاري، وعثمان بن أبي العاص الثقفي. وفي أيامه مات عتبان بن مالك الأنصاري، بدمشق. وفي أيامه بعد سنة سبع وخمسين مات السائب بن أبي وداعة السهمي. ومات في أيامه سراقة بن عمرو الأنصاري، وهو بدريٌّ. وفي أيامه مات زياد بن لبيد الأنصاري في أولها، وهو بدريٌّ. وفي أيامه مات معقل بن يسار المزني، وإليه ينسب نهر معقل بالبصرة، وقيل: مات في أيام يزيد.
معقل بالعين المهملة والقاف. ويسار بالياء المثناة والسين المهملة.
وفي أيامه مات ناجية بن جندب بن عمير صاحب بدن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها مات نعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، وهو الذي كان فيه مزاح ودعابة، وشهد بدراً، وقيل: بل الذي مات ابنه. وفي آخر أيامه مات عبد الله بن مالك بن بحينة، له صحبة. وفيها مات عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني بالبصرة.
ومغفل بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وفتح الفاء المشددة.
وفي أيامه مات هند بن جارية بن هند الأسلمي. وفي سنة ستين توفي حكيم بن حزام وله مائة وعشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، واسمه مالك بن ربيعة، وهو بدريٌّ، وقيل: مات سنة خمس وستين، وهو آخر من مات من البدريين، وقيل: مات سنة ثلاثين، ولا يصح. وفي أول أيام معاوية مات أبو بردة هانىء بن نيار البلوي حليف الأنصار، وهو عقبيٌّ بدريٌّ، وشهد مع علي حروبه كلها. وفي أيامه مات أبو ثعلبة الخشني، له صحبة، وقيل: مات سنة خمس وسبعين. وفي أيامه مات أبو جهم بن حذيفة العدوي القرشي في آخرها، وقيل: شهد بنيان الكعبة أيام ابن الزبير، وكان قد شهد قريشاً حين بنتها. وفي أول أيامه مات أبو حثمة الأنصاري والد سهل. وفي آخر أيامه مات أبو قيس الجهني، شهد الفتح. وفي سنة ستين توفي صفوان بن المعطل السلمي بسميساط، وقيل: إنه قتل شهيداً قبل هذا. وفيها توفيت الكلابية التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم، حين تزوجها ففارقها، وكانت قد أصابها جنون، وتوفي بلال بن الحارث المزني أبو عبد الرحمن. وفي آخر أيامه مات وائل بن حجر الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني.
هند بن جارية بالجيم، والياء المثناة من تحتها. وحارثة بن النعمان بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. أبو أسيد بضم الهمزة وفتح السين. ثم دخلت:

.سنة إحدى وستين:

.ذكر مقتل الحسين رضي الله عنه:

وسار الحسين من شراف، فلما انتصف النهار كبر رجلٌ من أصحابه، فقال له: مم كبرت؟ قال: رأيت النخل. فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الأرض نخلة قط! فقال الحسين: فما هو؟ فقالا: لا نراه إلا هوادي الخيل. فقال: وأنا أيضاً أره ذلك. وقال لهما: أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقالا: بلى، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد. فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا إليهم، فسبقهم الحسين إلى الجبل فنزل، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ثم اليربوعي، فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في نحر الظهيرة، فقال الحسين لأصحابه وفتيانه: اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفاً. ففعلوا، وكان مجيء القوم من القادسية، أرسلهم الحصين بن نمير التميمي في هذه الألف يستقبل الحسين، فلم يزل مواقفاً الحسين حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين مؤذنه بالأذان، فأذن، وخرج الحسين إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن اقدم إلينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم بمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
فسكتوا وقالوا للمؤذن: أقم، فأقام، وقال الحسين للحر: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك؟ فقال: بل صل أنت ونصلي بصلاتك. فصلى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه، ثم صلى بهم الحسين العصر، ثم استقبلهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفت عنكم.
فقال الحر: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر. فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرها بين أيديهم. فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا أنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك! ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك. فقال له الحسين: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال له: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان، ولكني والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: ما تريد؟ قال الحر: أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد. قال الحسين: إذن والله لا أتبعك. قال الحر: إذن والله لا أدعك. فترادا الكلام، فقال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية والحر يسايره.
ثم إن الحسين خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم، وأنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} الفتح: 10، وسيغني الله عنكم، والسلام.
فقال له الحر: إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن. فقال له الحسين: أبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وما أدري ما أقول لك! ولكني أقول كما قال أخو الأوسي لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له: أين تذهب؟ فإنك مقتول! فقال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى ** إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى رجالاً صالحين بنفسه ** وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم ** كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما

فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه، فكان يسير ناحيةً عنه حتى انتهى إلى عذيب الهجانات، كان به هجائن النعمان ترعى هناك فنسب إليها، فإذا هو بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له الكامل ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي وانتهوا إلى الحسين، فأقبل إليهم الحر وقال: إن هؤلاء النفر من أهل الكوفة وأنا حابسهم أو رادهم. فقال الحسين: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك. فكف الحر عنهم، فقال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس خلفكم. فقال له مجمع بن عبيد الله العائذي، وهو أحدهم: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، فهم ألبٌ واحدٌ عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة إليك.
وسألهم عن رسوله قيس بن مسهر، فأخبروه بقتله وما كان منه، فترقرقت عيناه بالدموع ولم يملك دمعته، ثم قرأ: {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} الأحزاب: 23، اللهم اجعل لنا ولهم الجنة واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
وقال له الطرماح بن عدي: والله ما أرى معك كثير أحدٍ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم، ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيومٍ ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعاً في صعيد واحد أكثر منه قط ليسيروا إليك، فأنشدك الله إن قدرت على أن لا تقدم إليهم شبراً فافعل، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك جبلنا أجأ، فهو والله جبل امتنعنا به من ملوك غسان وحمير والنعمان بن المنذر ومن الأحمر والأبيض، والله ما إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسليم من طيء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيء رجالاً وركباناً، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، فوالله لا يوصل إليك أبداً وفيهم عين تطرف. فقال له: جزاك الله وقومك خيراً! إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر جمعه على الانصراف ولا ندري علام تتصرف بنا وبهم الأمور. فودعه وسار إلى أهله ووعده أن يوصل الميرة إلى أهله ويعود إلى نصره، ففعل، ثم عاد إلى الحسين، فلما بلغ عذيب الهجانات لقيه خبر قتله فرجع إلى أهله.
ثم سار الحسين حتى بلغ قصر بني مقاتل فرأى فسطاطاً مضروباً فقال: لمن هذا؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي. فقال: ادعوه لي. فلما أتاه الرسول يدعوه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهية أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني. فعاد الرسول إلى الحسين فأخبره، فلبس الحسين نعليه ثم جاء فسلم عليه ودعاه إلى نصره، فأعاد عليه ابن الحر تلك المقالة، قال: فإن لا تنصرني فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك. فقال له: إما هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله تعالى.
ثم قام الحسين فخرج إلى رحله ثم سار ليلاً ساعةً فخفق برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين. فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال: يا أبت جعلت فداك! مم حمدت واسترجعت؟ قال: يا بني إني خفقت برأسي خفقةً فعن لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم؛ فعلمت أن أنفسنا نعيت إلينا. فقال: يا أبت لا أراك الله سوءاً. ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي يرجع إليه العباد. قال: إذن لا نبالي أن نموت محقين. فقال له: جزاك الله من ولد خيراً ما جزى ولداً عن والده.
فلما أصبح نزل فصلى ثم عجل الركوب فأخي يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فأتى الحر فرده وأصحابه، فجعل إذا ردهم نحو الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه وارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون حتى انتهوا إلى نينوى، المكان الذي نزل به الحسين، فلما نزلوا إذا راكب مقبل من الكوفة، فوقفوا ينتظرونه، فسلم على الحر ولم يسلم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحر كتاباً من ابن زياد، فإذا فيه: أما بعد فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصين وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وقد أمر رسوله أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره. وأخذهم الحر بالنزول على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دعنا ننزل في نينوى أو الغاضرية أو شفية. فقال: لا أستطيع، هذا الرجل قد بعث عيناً علي. فقال زهير بن القين للحسين: إنه لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه يا ابن رسول الله، وإن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به! فقال الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة وهي على شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم. فقال الحسين: ما هي؟ قال: العقر. قال: اللهم إني أعوذ بك من العقر! ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من محرم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف، وكان سبب مسيره إليه أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف في دستبى، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب له عهده على الري، فعسكر بالناس في حمام أعين، فلما كان من أمر الحسين ما كان دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال له: سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه. فقال: نعم، على أن ترد عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلني اليوم حتى أنظر. فاستشار نصحاءه فكلهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة، وهو ابن أخته، فقال: أنشدك الله يا خالي أن تسير إلى الحسين فتأثم وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك خير من أن تلقى الله بدم الحسين! فقال: أفعل. وبات ليلته مفكراً في أمره، فسمع وهو يقول:
أأترك ملك الري والري رغبةً ** أم أرجع مذموماً بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها ** حجابٌ وملك الري قرة عين

ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد وليتني هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى في الحرب منه؛ وسمى أناساً. فقال له ابن زياد: لست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا. قال: فإني سائر. فأقبل في ذلك الجيش حتى نزل بالحسين، فلما نزل به بعث إليه رسولاً يسأله ما الذي جاء به، فقال الحسين: كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم عليهم، فأما إذ كرهوني فإني أنصرف عنهم. فكتب عمر إلى ابن زياد يعرفه ذلك، فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به ** يرجو النجاة ولات حين مناص

ثم كتب إلى عمر يأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد فإن فعل ذلك رأينا رأينا، وأن يمنعه ومن معه الماء. فأرسل عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وبين الماء. وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام، ونادى عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، وعداده في بجيلة: يا حسين أما تنظر إلى الماء؟ لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً! فقال الحسين: اللهم اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً. قال: فمرض فيما بعد فكان يشرب الماء القلة ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر ثم يقيء ثم يشرب فيما يروى، فما زال كذلك حتى مات.
فلما اشتد العطش على الحسين وأصحابه أمر أخاه العباس بن علي فسار في عشرين راجلاً يحملون القرب وثلاثين فارساً فدنوا من الماء فقاتلوا عليه وملؤوا القرب وعادوا، ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك. فخرج إليه عمر، فاجتمعا وتحادثا طويلاً ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره، وتحدث الناس أن الحسين قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال عمر: أخشى أن تهدم داري. قال: أبنيها لك خيراً منه. قال: تؤخذ ضياعي. قال: أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز. فكره ذلك عمر.
وتحدث الناس بذلك ولم يسمعوه، وقيل: بل قاله له: اختاروا مني واحدة من ثلاث: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروا بي إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم.
وقد روي عن عقبة بن سمعان أنه قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته للناس إلى يوم مقتله، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أنه يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس. فلم يفعلوا.
ثم التقى الحسين وعمر بن سعد مراراً ثلاثاً أو أربعاً فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: إما بعد فإن الله أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح. فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه، نعم قد قبلت.
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، ولله لقد بلغني أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين العسكرين.
فقال ابن زياد: نعم ما رأيت الرأي رأيك اخرج بهذا الكتاب إلى عمر فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فليقاتلهم، وإن فعل فاسمع له وأطع، وإن أبى فأنت الأمير عليه وعلى الناس واضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وكتب معه إلى عمر بن سعد: أما بعد فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره فإنه عاقٌّ شاقٌّ قاطع ظلوم، فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر وبين العسكر، والسلام.
فلما أخذ شمر الكتاب كان معه عبد الله بن أبي المحل بن حزام عند ابن زياد، وكانت عمته أم البنين بنت حزام عن علي، فولدت له العباس وعبد الله وجعفراً وعثمان، فقال لابن زياد: إن رأيت أن تكتب لبني أختنا أماناً فافعل، فكتب لهم أماناً فبعث به مع مولى له إليهم، فلما رأوا الكتاب قالوا: لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية. فلما أتى شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر قال له: ما لك ويلك قبح الله ما جئت به! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كنت كتبت إليه به، أفسدت علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم الحسين أبداً، والله إن نفس أبيه لبين جنبيه. فقال له شمر: ما أنت صانع؟ قال: أتولى ذلك. ونهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، وجاء شمر فدعا العباس بن علي وإخوته فخرجوا إليه، فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟ ثم ركب عمر والناس معه بعد العصر والحسين جالس أمام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبته، وسمعت أخته زينب الضجة فدنت منه فأيقظته، فرفع رأسه فقال: إني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقال: إنك تروح إلينا. قال: فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتاه! قال: ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله! قال له العباس أخوه: يا أخي أتاك القوم. فنهض فقال: يا أخي أركب بنفسي. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت حتى تلقاهم فتقول: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم. فأتاهم في نحو عشرين فارساً فيهم زهير بن القين فسألهم، فقالوا: جاء أمر الأمير بكذا وكذا. قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويذكرونهم الله، فلما أخبره العباس بقولهم قال له الحسين: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار. وأراد الحسين أيضاً أن يوصي أهله. فرجع إليهم العباس وقال لهم: انصرفوا عنا العشية حتى ننظر في هذا الأمر، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه وإما رددناه.
فقال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: أنت الأمير. فأقبل على الناس فقال: ما ترون؟ فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوهم. وقال قيس بن الأشعث بن قيس: أجبهم لعمري ليصبحنك بالقتال غدوة. فقال: لو أعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشية. ثم رجع عنهم.
فجمع الحسين أصحابه بعد رجوع عمر فقال: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري. فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وابناء عبد الله بن جعفر: لم نفعل هذا؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً! فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم. قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن منهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك! وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك. أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وتكلم أصحابه بنحو هذا، فجزاهم الله خيراً.
وسمعته أخته زينب تلك العشية وهو في خباء له يقول، وعنده حوي مولى أبي ذر الغفاري يعالج سيفه:
يا دهر أفٍ لك من خليل ** كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب أو طالبٍ قتيل ** والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل ** وكل حيٍ سالك السبيل

فأعادها مرتين أو ثلاثاً، فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها حتى انتهت إليه ونادت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم! ماتت فاطمة أمي وعلي أبي والحسن أخي يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فذهب فنظر إليها وقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي استقتلت! نفسي لنفسك الفدى! فردد غصته وترقرقت عيناه ثم قال: لو ترك القطا ليلاً لنام. فلطمت وجهها وقالت: وا ويلتاه! أفتغصبك نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي! ثم لطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشياً عليها. فقام إليها الحسين فصب الماء على جهها وقال: اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالكٌ إلا وجه الله، أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية إني أقسم عليك لا تشقي علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت.
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ويكونوا بين يدي البيوت فيستقبلون القوم من وجه أحد والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم.
فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويتضرعون ويدعون. فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، وقيل الجمعة، يوم عاشوراء، خرج فيمن معه من الناس، وعبى الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم، وأعطى رايته العباس أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم كأنه ساقية عملوه في ساعة من الليل لئلا يؤتوا من ورائهم وأضرم ناراً تمنعهم ذلك.
وجعل عمر بن سعد على ربع أهل المدينة عبد الله بن زهير الأزدي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي، فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه، وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر ابن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي اليربوعي التميمي، وأعطى الراية دريداً مولاه.
فلما دنوا من الحسين أمر فضرب له فسطاط، ثم أمر بمسك فميث في جفنة، ثم دخل الحسين فاستعمل النورة، ووقف عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط وازدحما أيهما يطلي بعده، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له: والله ما هذه بساعة باطل. فقال برير: والله إن قومي لقد علموا أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكني مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم. فلما فرغ الحسين دخلا، ثم ركب الحسين دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه، فرفع يديه ثم قال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همٍ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً إليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة.
فلما رأى أصحاب عمر النار تلتهب في القصب نادى شمر الحسين: تعجلت النار في الدنيا قبل القيامة! فعرفه الحسين فقال: أنت أولى بها صلياً! ثم ركب الحسين راحلته وتقدم إلى الناس ونادى بصوت عال يسمعه كل الناس فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظهم بما يجب لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر {فأجموا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون} يونس: 71، {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} الأعراف: 196،! قال: فلما سمع أخواته قوله بكين وصحن وارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه علياً ليسكتاهن، وقال: لعمري ليكثرن بكاؤهن! فلما ذهب قال: لا يبعد ابن عباس، وإنما قالها حين سمع بكاءهن لأنه كان نهاه أن يخرج بهن معه.
فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء وقال ما لا يحصى كثرة، فما سمع أبلغ منه، ثم قال: أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وبان عمه، وأولى المؤمنين بالله والمصدق لرسوله؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي ولأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة؟ فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحق، والله ما تعمدت كذباً مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله أو أبا سعيد أو سهل بن سعد أو زيد بن أرقم أو أنساً يخبروكم أنهم سمعوه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟.
فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حبيب بن مطهر: والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وإن الله قد طبع على قلبك فلا تدري ما تقول.
ثم قال الحسين: فإن كنتم في شك مما أقول أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو بمال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ فلم يكلموه، فنادى: يا شبث بن ربعي! ويا حجار بن أبجر! ويا قيس بن الأشعث! ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إلي في القدوم عليكم؟ قالوا: لم نفعل. ثم قال: بلى فعلتم. ثم قال: أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض.
قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمك، يعني ابن زياد، فإنك لن ترى إلا ما تحب. فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله ولا أعطيهم بيدي عطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبد. عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ثم أناخ راحلته ونزل عنها.
وخرج زهير بن القين على فرس له في السلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا نحن أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون مهما إلا سوءاً، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانىء بن عروة وأشباهه! قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلماً. فقال لهم: يا عبدا الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. فرماه شمرٌ بسهم وقال: اسكت اسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال زهر: يا ابن البوال على عقبيه! ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة! والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: أفبالموت تخوفني؟ والله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم! ثم رفع صوته وقال: يا عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي، فوالله لا تنال شفاعة محمد قوماً أهرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم. فأمره الحسين فرجع.
ولما زحف عمر نحو الحسين أتاه الحر بن يزيد فقال له: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال له: إي إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضىً؟ فقال عمر بن سعد: والله لو كان الأمر إلي لفعلت ولكن أميرك قد أبى ذلك. فأقبل يدنو نحو الحسين قليلاً قليلاً، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس: والله إن أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قط ما أراه الآن! ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك. فقال له: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين، فقال له: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي مؤاسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك.
وتقدم الحر أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم ألا تقبلون من الحسين خصلةً من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ فقال عمر: لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلاً. فقال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر! أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه؟ أمسكتم بنفسه وأحطتم به ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هو وأهله قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمداً في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه! فرموه بالنبل، فرجع حتى وقف أمام الحسين.
ثم قدم عمر بن سعد برايته، وأخذ سهماً فرمى به وقال: اشهدوا لي أني أول رامٍ! ثم رمى الناس، وبرز يسار، مولى زياد، وسالم، مولى عبيد الله، وطلبا البراز، فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبي، وكان قد أتى الحسين من الكوفة وسارت معه امرأته، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما. فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مطهر، أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبي: يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس، وما يخرج إليك أحد إلا وهو خير منك! ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتى برد فاشتغل به يضربه، فحمل عليه سالم، فلم يأبه له حتى غشيه فضربه، فاتقاه الكلبي بيده فأطار أصابع كفه اليسرى، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله، وأخذت امرأته عموداً، وكانت تسمى أم وهب، وأقبلت نحو زوجها وهي تقول: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد! فردها نحو النساء، فامتنعت وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك. فناداها الحسين فقال: جزيتم من أهل بيت خيراً! ارجعي رحمك الله، ليس الجهاد إلى النساء. فرجعت.
فزحف عمرو بن الحجاج في ميمنة عمر، فلما دنا من الحسين جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا آخرين.
وتقدم رجل منهم يقال له ابن حوزة فقال: أفيكم الحسين؟ فلم يجبه أحد، فقالها ثلاثاً، فقالوا: نعم، فما حاجتك؟ قال: يا حسين أبشر بالنار! قال له: كذبت بل أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة. فرفع الحسين يديه فقال: اللهم حزه إلى النار! فغضب ابن حوزة فأقحم فرسه في نهر بينهما فتعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت فخذه وساقه وقدمه وبقي جنبه الآخر متعلقاً بالركاب يضرب به كل حجر وشجر حتى مات.
وكان مسروق بن وائل الحضرمي قد خرج معهم وقال لعلي: أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلة عند ابن زياد، فلما رأى ما صنع الله بابن حوزة بدعاء الحسين رجع وقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً، لا أقاتلهم أبداً.
ونشب القتال وخرج يزيد بن معقل حليف عبد القيس فقال: يا بربر ابن حضير كيف ترى الله صنع بك؟ قال: والله لقد صنع بي خيراً وصنع بك شراً. فقال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً، وأنا أشهد أنك من الضالين. فقال له ابن حضير: هل لك أن أباهلك أن يلعن الله الكاذب ويقتل المبطل، ثم أخرج أبارزك! فخرجها فتباهلا أن يلعن الله الكاذب ويقتل المحق المبطل ثم تبارزا فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير فلم يضره شيئاً وضربه ابن حضير ضربةً قدت المغفر وبلغت الدماغ فسقط والسيف في رأسه، فحمل عليه رضى بن منقذ العبدي، فاعتنق ابن حضير، فاعتركا ساعة ثم إن ابن حضير قعد على صدره، فحمل كعب بن جابر الأزدي عليه بالرمح فوضعه في ظهره حتى غيب السنان فيه، فلما وجد مس الرمح نزل على رضى فعض أنفه وقطع طرفه، وأقبل إليه كعب بن جابر فضربه بسيفه حتى قتله، وقام رضى ينفض التراب عن قبائه، فلما رجع كعب قالت له امرأته: أعنت على ابن فاطمة وقتلت بريراً سيد القراء، والله لا أكلمك أبداً!
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري وقاتل دون الحسين فقتل، وكان أخوه مع عمر بن سعد، فنادى: يا حسين يا كذاب ابن الكذاب! أضللت أخي وغررته حتى قتلته! فقال: إن الله لم يضل أخاك بل هداه وأضلك. قال: قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك. فحمل واعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمل أصحابه فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ.
وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالاً شديداً، وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحر، وقاتل نافع بن هلال مع الحسين أيضاً فبرز إليه مزاحم بن حريث فقتله نافع.
فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر، قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل وقل ما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم. يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم، لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام. فقال عمر: الرأي ما رأيت. ومنع الناس من المبارزة. قال: وسمعه الحسين فقال: يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين أم أنتم؟ والله لتعلمن لو قبضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أينا المارق.
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات فاضطربوا ساعةً، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي، وانصرف عمرو ومسلم صريع، فمشى إليه الحسين وبه رمقٌ فقال: رحمك الله يا مسلم بن عوسجة، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} الأحزاب: 23. ودنا منه حبيب بن مطهر وقال: عز علي مصرعك، أبشر بالجنة، ولولا أني أعلم أنني في أثرك لاحقٌ بك لأحببت أن توصيني حتى أحفظك بما أنت له أهل. فقال: أوصيك بهذا، رحمك الله، وأومأ بيده نحو الحسين، أن تموت دونه. فقال: أفعل. ثم مات مسلم وصاحت جاريةٌ له فقالت: يابن عوسجة! فنادي أصحاب عمرو: قتلنا مسلماً. فقال شبث لبعض من حوله: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون أنفسكم لغيركم، أتفرحون بقتل مثل مسلم؟ أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين، فلقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تنام خيول المسلمين، أفيقتل مثله وتفرحون؟ وكان الذي قتله مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي.
وحملى شمر في المسيرة فثبتوا له وحملوا على الحسين وأصحابه من كل جانب، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين وقاتل قتالاً شديداً، فقتله هانىء بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التميمي من تيم الله بن ثعلبة، وقاتل أصحاب الحسين قتالاً شديداً، وهم اثنان وثلاثون فارساً، فلم تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته. فلما رأى ذلك عزرة بن قيس، وهو على خيل الكوفة، بعث إلى عمر فقال: ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة. فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم! فقال: سبحان الله! شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة، لم تجد لهذا غيري! ولم يزالوا يرون من شبث الكراهة للقتال حتى إنه كان يقول في إمارة مصعب: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية، ضلال يا لك من ضلال! فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فلما دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم، وقاتل الحر بن يزيد راجلاً قتالاً شديداً، فقاتلوهم، إلى أن انتصف النهار، أشد قتال خلقه الله لا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم. فلما رأى ذلك عمر أرسل رجالاً يقوضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخللون البيوت فيقلتون الرجل وهو يقوض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال لهم الحسين: دعوهم فليحرقوها فإنهم إذا حرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها. فكان كذلك.
وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئاً لك الجنة! فأمر شمر غلاماً اسمه رستم فضرب رأسها بالعمود فماتت مكانها.
وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن، وصاح به الحسين: أنت تحرق بيتي على أهلي؟ حرقك الله بالنار! فقال حميد بن مسلم لشمر: إن هذا لا يصلح لك، تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء، والله إن في قتل الرجال لما يرضى به أميرك! فلم يقبل منه، فجاءه شبث بن ربعي فنهاه فانتهى، وذهب لينصرف فحمل عليه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت وقتلوا أبا عزة الضبابي، وكان من أصحاب شمر. وعطف الناس عليهم فكثروهم، وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلتهم، وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم.
ولما حضر وقت الصلاة قال أبو ثمامة الصائدي للحسين: نفسي لنفسك الفداء! أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة! فرفع الحسين رأسه وقال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي. ففعلوا، فقال لهم الحصين: إنها لا تقبل. فقال له حبيب بن مطهر: زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتقبل منك يا حمار! فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب فسقط عنه الحصين فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالاً شديداً فقتل رجلاً من بني تميم اسمه بديل بن صريم، وحمل عليه آخر من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: أنا شريكك في قتله. فقال الآخر: لا والله! فقال له الحصين: أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس أني شركت في قتله ثم خذه وامض به إلى ابن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه.
ففعل وجال به في الناس ثم دفعه إليه، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الرأس وجعله في عنق فرسه ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به القاسم بن حبيب، وقد راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، فارتاب به الرجل، فسأله عن حاله، فأخبره وطلب الرأس ليدفنه، فقال: إن الأمير لا يرضى أن يدفن وأرجو أن يثيبني الأمير. فقال له: لكن الله لا يثيبك إلا أسوأ الثواب. ولم يزل يطلب غرة قاتل أبيه حتى كان زمان مصعب، وغزا مصعب ياجميرى، ودخل القاسم عسكره فإذا قاتل أبيه في فسططه فدخل عليه نصف النهار فقتله.
فلما قتل حبيب هد ذلك الحسين وقال عند ذلك: أحتسب نفسي وحماة أصحابي. وحمل الحر وزهير بن القين فقاتلا قتالاً شديداً، وكان إذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة ثم إن رجاله حملت على الحر بن يزيد فقتلته، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوه، ثم صلوا الظهر، صلى بهم الحسين صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتد قتالهم، ووصلى إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل وهو بين يديه حتى سقط.
وقاتل زهير بن القين قتالاً شديداً، فحمل عليه كثير بن عبيد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه، وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثني عشر رجلاً سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيراً، فأخذه شمر بن ذي الجوشن فأتى به عمر بن سعد والدم على وجهه وهو يقول: لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى من جرحت، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني. فانتضى شمرٌ سيفه ليقتله، فقال له نافع: والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه! فقتله شمرٌ ثم حمل على أصحاب الحسين.
فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريان إليه فقالا: قد حازنا الناس إليك. فجعلا يقاتلان بين يديه، وأتاه الفتيان الجابريان وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عم وأخوان لأم وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين. فقالا: والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك! فقال: جزاكما الله جزاء المتقين!
وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين وجعل ينادي: {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلماً للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ ومن يضلل الله فما له من هادٍ} غافر: 30- 33. يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم الله بعذاب {وقد خاب من افترى} طه: 61، فقال له الحسين: رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا ليستبيحوك وأصحابك فكيف بهم الآن قد قتلوا إخوانك الصالحين! فسلم على الحسين وصلى عليه وعلى أهل بيته وتقدم وقاتل حتى قتل.
وتقدم الفتيان الجابريان فودعا الحسين وقاتلا حتى قتلا.
وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولى شاكر إلى الحسين فسلما عليه وتقدما فقاتلا فقتل شوذب، وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته، فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة، فرموه من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وحمل على الناس فهزمهم بين يديه، ثم رجعوا عليه فقتلوه وادعى قتله جماعةٌ.
وجاء الضحاك بن عبد الله المشرفي إلى الحسين فقال: يا ابن رسول الله قد علمت أني قلت لك إني أقاتل عنك ما رأيت مقاتلاً، فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حل من الإنصراف. فقال له الحسين: صدقت، وكيف لك بالنجاء؟ إن قدرت عليه فأنت في حل. قال: فأقبلت إلى فرسي، وكنت قد تركته في خباء حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، وقاتلت راجلاً وقتلت رجلين وقطعت يد آخر، ودعا إلى الحسين مراراً، قال: واستخرجت فرسي واستويت عليه وحملت على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلاً ففتهم وسلمت.
وجثا أبو الشعثاء الكندي، وهو يزيد بن أبي زياد، بين يدي الحسين، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكلما رمى يقول له الحسين: اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة! وكان يزيد هذا فيمن خرج مع عمر بن سعد، فلما ردوا الشروط على الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه، وكان أول من قتل.
وأما الصيداوي عمرو بن خالد وجبار بن الحارث السلماني وسعد مولى عمرو بن خالد ومجمع بن عبيد الله العائذي فإنهم قاتلوا أول القتال، فلما وغلوا فيهم عطفوا إليهم فقطعوهم عن أصحابهم، فحمل العباس بن علي فاستنقذهم وقد جرحوا، فلما دنا منهم عدوهم حملوا عليهم فقاتلوا فقتلوا في أول الأمر في مكان واحد.
وكان آخر من بقي من أصحاب الحسين سويد بن أبي المطاع الخثعمي، وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذٍ علي الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي

نحن ورب البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

ففعل ذلك مراراً، فحمل عليه مرة بن منقذ العبدي فطعنه فصرع وقطعه الناس بسيوفهم، فلما رآه الحسين قال: قتل الله قوماً قتلوك! يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء! وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم، فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.
ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فلم يستطع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عبد الله بن عروة الخثعمي جعفر بن عقيل فقتله. ثم حمل القاسم بن الحسن بن علي وبيده السيف، فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي فضرب رأسه بالسيف فسقط القاسم إلى الأرض لوجهه وقال: يا عماه! فانقض الحسين إليه كالصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمراً بالسيف فاتقاه بيده فقطع يده من المرفق فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمراً فاستقبلته بصدورها وجالت عليه فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة والحسين واقف على رأس القاسم وهو يفحص برجليه والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك! ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك صوته، والله هذا يوم كثر واتره وقل ناصره! ثم احتمله على صدره حتى ألقاه مع ابنه علي ومن قتل معه من أهل بيته.
ومكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه عليه، ثم إن رجلاً من كندة يقال له مالك بن النسير أتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دماً، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين! وألقى البرنس ولبس القلنسوة، وأخذ الكندي البرنس، فلما قدم على أهله أخذ البرنس يغسل الدم عنه، فقالت له امرأته: اسلب ابن بنت رسول الله تدخل بيتي؟ أخرجه عني! قال: فلم يزل ذلك الرجل فقيراً بشر حتى مات.
ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد فذبحه، فأخذ الحسين دمه فصبه في الأرض ثم قال: ربي إن تكن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير وانتقم من هؤلاء الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله، وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان: تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم. ففعلوا فقتلوا، وحمل هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله، ثم حمل على جعفر بن علي فقتله، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان أيضاً محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظر كأنه مذعور، فحمل عليه رجل قيل إنه هانىء بن ثبيت الحضرمي فقتله.
واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده ورمى به إلى السماء، ثم حم الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يصنع بابن بنت نبيك! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً! قيل الذي رماه رجل من بني أبان بن دارم، فمكث ذلك الرجل يسيراً ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى فكان يروح عنه ويبرد له الماء فيه السكر وعساس فيها اللبن ويقول: اسقوني، فيعطى القلة أو العس فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهةً ثم يقول: اسقوني قتلني الظمأ، فما لبث إلا يسيراً حتى انقدت بطنه انقداد بطن البعير.
ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين فحالوا بينه وبين رحله، فقال لهم الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم. فقالوا: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم: أبو الجنوب، واسمه عبد الرحمن الجعفي، والقشعم بن نذير الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، وجعل شمر يحرضهم على الحسين وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم إنهم أحاطوا به. وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه وقد أهوى بحر بن كعب بن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة، فنادى الغلام: يا أمتاه! فاعتنقه الحسين وقال له: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين الصالحين، برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلي وحمزة وجعفر والحسن. وقال الحسين: اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض! اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض عنهم الولاة أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا! ثما ضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه.
ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل ففزره ونكثه لئلا يسلبه، فقال له بعضهم: لو لبست تحته التبان. قال: ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه. فلما قتل سلبه بحر بن كعب، وكان يداه في الشتاء تنضحان بالماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله، فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا، ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا، فما رؤي مكثور قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أرط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً منه، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب.
فبينما هو كذلك إذ خرجت زينب وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد، فقالت: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها.
وكان على الحسين جبة من خز، وكان معتماً مخصوباً بالوسمة، وقاتل راجلاً قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تجتمعون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني! وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون! أما والله لوقتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ومكث طويلاً من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء، فنادى شمر في الناس: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى، وضرب أيضاً على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فت الله عضدك! ونزل إليه فذبحه واحتز رأسه فدفعه إلى خولي، وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وهي من خز، فكان يسمى بعد قيس قطيفة، وأخذ نعليه الأسود الأودي، وأخذ سيفه رجل من دارم، ومال الناس على الفرش والحلل والإبل فانتهبوها، ونهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير الرمية.
وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخناً بالجراحات، فسمعهم يقولون: قتل الحسين! فوجد خفةً فوثب ومعه سكين، وكان سيفه قد أخذ، فقاتلهم بسكينة ساعة ثم قتل، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي، وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين.
ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين، فأراد شمر قتله، فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله أتقتل الصبيان! وكان مريضاً، وجاء عمر بن سعد فقال: لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده، فلم يرد أحد شيئاً. فقال الناس لسنان بن أنس النخعي: قتلت الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتلت أعظم العرب خطراً، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم في قتله كان قليلاً. فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً شاعراً به لوثة، حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضةً وذهبا ** إني قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أماً وأبا ** وخيرهم إذ ينسبون نسبا

فقال عمر بن سعد: أشهد إنك مجنون، أدخلوه علي. فلما دخل حذفه بالقضيب وقال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام. والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك! وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة الحسين، فقال: ما أنت؟ فقال: أنا عبد مملوك. فخلى سبيله، فلم ينج منهم غيره وغير المرقع بن ثمامة الأسدي، وكان قد نثر نبله فقاتل، فجاء نفر من قومه فآمنوه فخرج إليهم، فلما أخبر ابن زياد خبره نفاه إلى الزرارة.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه، فانتدب عشرة، منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين، فبرص بعد، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى روا ظهره وصدره.
وكان عدة من قتل من أصحبا الحسين اثنين وسبعين رجلاً.
ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد قتلهم بيوم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلاً سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم.
ولما قتل الحسين أرسل رأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي، فوجد خولي القصر مغلقاً فأتى منزله فوضع الرأس تحت إجانة في منزله ودخل فراشه وقال لامرأته النوار: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار. فقالت: ويلك! جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً! وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار، قالت: فما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيراً أبيض يرفرف حولها. فلما أصبح غدا بالرأس إلى ابن زياد.
وقيل: بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس، فجلس ابن زياد وأذن للناس فأحضرت الرؤوس بين يديه وهو ينكت بقضيب بين ثنيته ساعة، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال: أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غره لقد رأيت شفتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على هاتين الشفتين يقبلهما! ثم بكى، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج وهو يقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن يرضى بالذل! فأقام عمر بعد قتله يومين ثم ارتحل إلى الكوفة وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريض، فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب أخته: يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء! هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كل عدو وصديق.
فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها، فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثاً وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً، لا كما تقول أنت، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. فقال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده. فغضب ابن زياد وقال: قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت وقالت: لعمري لقد كان أبوك شجاعاً! فقالت: ما للمرأة والشجاعة! ولما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟؛ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضاً عليٌّ فقتله الناس. فقال: إن الله قتله. فسكت عليٌّ. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} الزمر: 42، {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله} آل عمران: 145. قال: أنت والله منهم. ثم قال لرجل: ويحك! انظر هذا هل أدرك؟ إني لأحسبه رجلاً. قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك. قال: اقتله. فقال علي: من توكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا، وهل أبقيت منا أحداً! واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلتني معه! وقال له علي: يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام. فنظر إليها ساعة ثم قال: عجباً للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام ينطلق مع نسائه.
ثم نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر فخطبهم وقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته.
فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الوالبي، وكان ضريراً قد ذهب إحدى عينيه يوم الجمل مع علي والأخرى بصفين معه أيضاً، وكان لا يفارق المسجد يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف، فلما سمع مقالة ابن زياد قال: يا ابن مرجانة! إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه! يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟ فقال: علي به. فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور! فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه، فأرسل إليه من أتاه به فقتله وأمر بصلبه في المسجد، فصلب، رحمه الله.
وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة، وكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أن أول راس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.
ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة، وقيل: مع شمر وجماعة معه، وارسل معه النساء والصبيان، وفيهم علي بن الحسين، قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته، وحملهم على الأقتاب، فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام، فدخل زحر بن قيس على يزيد، فقال: ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون بالإكام والحفر، كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله ما كان إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم! فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب.
قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيءٍ.
وقيل: إن آل الحسين لما وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط وفيه: إن البريد سار بأمركم إلى يزيد فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم النكير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان. فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي وفيه كتاب يقول فيه: أوصوا واعهدوا فقد قارب وصول البريد. ثم جاء البريد بأمر يزيد بإرسالهم إليه، فدعا ابن زياد محفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن وسيرهما بالثقل والرأس، فلما وصلوا إلى دمشق ندى محفر بن ثعلبة على باب يزيد: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم! فقال يزيد: ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه، ولكنه قاطع ظالم.
ثم دخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه، فسمعت الحديث هندٌ بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وكانت تحب يزيد، فتقنعت بثوبها وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فأعولي عليه وحدي على ابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله، قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ** قواضب في أيماننا تقطر الدما

يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً، لربما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه. ثم قام فولى.
فقال يزيد: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم قال: أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبى علي خير من أبيه، وفاطمة أمير خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه؛ فأما قوله أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله وعلم الناس أيهما حكم له؛ وأما قوله أمي خير من أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي؛ وأما قوله جدي رسول الله خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: {قل اللهم مالك الملك} آل عمران: 26.
ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه، فجعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس. فلما رأين الرأس صحن، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية. فقات فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره. قالت: والله ما ترك لنا خرص. فقال: ما أتى إليكن أعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه، يعني فاطمة، فأخذت بثياب أختها زينب، وكانت أكبر منها، فقالت زينب: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبت والله، إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلته. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك! قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك. قال: كذبت يا عدوة الله! قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك؟ فاستحى وسكت، ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم وسألهن عما أخذ منهن فأضعفه لهن، فكانت سكينة تقول: ما رأيت كافراً بالله خيراً من يزيد بن معاوية.
ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخل مغلولاً فقال: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مغلولين لفك عنا. قال: صدقت. وأمر بفك غله عنه. فقال عليٌّ: لو رآنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعداء لأحب أن يقربنا. فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ} الحديد: 22- 23. فقال يزيد: {ما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم} الشورى: 30. ثم سكت عنه وأمر بإنزاله وإنزال نسائه في دار علي جده، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علياً إليه، فدعاه ذات يوم ومعه عمرو بن الحسن، وهو غلام صغير، فقال لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني خالد بن يزيد، فقال عمرو: أعطني سكيناً وأعطه سكيناً حتى أقاتله. فضمه يزيد إليه وقال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! وقيل: ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وهنٌ في سلطاني حفظاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورعاةً لحقه وقرابته، لعن الله ابن مرجانة فإنه اضطره، وقد سأله أن يضع يده في يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله، فلم يجبه إلى ذلك فقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين، ما لي ولابن مرجانة، لعنه الله وغضب عليه! ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة أمر يزيد النعمان بن بشير أن يجهزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلاً أميناً من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة، ودعا علياً ليودعه وقال له: لعن الله ابن مرجانة! أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلةً أبداً إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت. يا بني كاتبني حاجةً تكون لك. وأوصى بهم هذا الرسول، فخرج بهم فكان يسايرهم ليلاً فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا حلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا ها إليه واعتذرتا، فرد الجميع وقال: لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان مع الحسين امرأته الرباب بنت امرىء القيس، وهي أم ابنته سكينة، وحملت إلى الشام فيمن حمل من أهله، ثم عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً، وقيل: إنها أقامت على قبره سنة وعادت إلى المدينة فماتت أسفاً عليه.
فأرسل عبيد الله بن زياد مبشراً إلى المدينة بقتل الحسين إلى عمرو بن سعيد، فلقيه رجل من قريش فقال: ما الخبر؟ فقال: الخبر عند الأمير. فقال القرشي: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل الحسين.
ودخل البشير على عمرو بن سعيد فقال: ما وراءك؟ قال: ما سر الأمر، قتل الحسين بن علي. فقال: ناد بقتله، فنادى، فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها حاسرةً تلوي ثوبها وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ** منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

فلما سمع عمرو أصواتهن ضحك وقال:
عجت نساء بني زيادٍ عجةً ** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، وهذا البيت لعمرو بن معدي كرب.
ثم قال عمرو: واعية كواعية عثمان؛ ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.
ولما بلغ عبد الله بن جعفر قتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه يعزيه والناس يعزونه، فقال مولاه: هذا ما لقيناه من الحسين! فحذفه ابن جعفر بنعله وقال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ويهون علي المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه. ثم قال: إن لم تكن آست الحسين يدي فقد آساه ولدي.
ولما وفد أهل الكوفة بالرأس إلى الشام ودخلوا مسجد دمشق أتاهم مروان بن الحكم فسألهم كيف صنعوا؟ فأخبروه، فقام عنهم ثم أتاهم أخوه يحيى ابن الحكم فسألهم فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبداً! ثم انصرف عنهم. فلما دخلوا على يزيد قال يحيى بن أكثم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ** من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل

سمية أمسى نسلها عدد الحصى ** وليس لآل المصطفى اليوم من نسل

فضرب يزيد في صدره وقال: اسكت. قيل: وسمع بعض أهل المدينة ليلة قتل الحسين منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً ** أبشروا بالعذاب والتنكيل

كل أهل السماء يدعو عليكم ** من نبيٍ وملأكٍ وقبيل

قد لعنتم على لسان ابن داو ** د وموسى وصاحب الإنجيل

ومكث الناس شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع. قال رأس جالوت ذلك الزمان: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، لأنا كنا نتحدث أن ولد نبي يقتل بذلك المكان، فكنت أخاف، فلما قتل الحسين أمنت فكنت أسير ولا أركض.
قيل وكان عمر الحسين يوم قتل خمساً وخمسين سنة، وقيل: قتل وهو ابن إحدى وستين، وليس بشيءٍ.
وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
برير بن خضير بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء. وخضير بالخاء والضاد المعجمتين. ثبيت بضم الثاء المثلثة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره تاء مثناة من فوقها. ومحفر بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الفاء المكسورة، وآخره راء.
وقال ** التيمي تيم مرة يرثي الحسين وأهله وكان منقطعاً إلى بني هاشم:

مررت على أبيات آل محمدٍ ** فلم أرها أمثالها يوم حلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها ** وإن أصبحت من أهلها قد تخلت

وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ** أذل رقاب المسلمين فذلت

وكانوا رجاءً ثم أضحوا رزية ** لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

وعند غنيٍ قطرةٌ من دمائنا ** سنجزيهم يوماً بها حيث حلت

إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرها ** تقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت